× الرقية الشرعية الرقية الشرعية ضوابطها وأحكامها العبودية الامر بالمعروف .. أمثال من القرآن الحسنة و السيئة الاستعداد للموة.. المسيح الدجال.. التبرج معجزات الانبياء أسرار التكرار في القرآن الثبات عند الممات الزهد والورع والعبادة المواقع الإباحية نساء حول الرسول أشراط الساعة
فهرس الكتب

المكتبة

 

كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر




كتاب:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية




بعض أغلاط الناس في مفهوم الأمر بالمعروف

وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته : إنكم تقرؤون هذه الآية : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } . وإنكم تضعونها في غير موضعها ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منها » .

والفريق الثاني : من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح ، وما يقدر عليه وما لا يقدر ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمراً لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله » ، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده ، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة ؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك ، وكان فساده أعظم من صلاحه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، وقال: « أدوا إليهم حقوقهم ، وسلوا الله حقوقكم » . وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .

ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : " التوحيد " الذي هو سلب الصفات ، " والعدل " الذي هو التكذيب بالقدر ، و " المنزلة بين المنزلتين " و " إنفاذ الوعيد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " الذي منه قتال الأئمة . وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع .

وجماع ذلك داخل في " القاعدة العامة " : فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .

حكم من يجمع بين المعروف والمنكر

وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر .
ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله .
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً .

وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ، ويحمد محمودها ويذم مذمومها ، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه ، أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية . وهذا باب واسع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه : حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.

وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر ، وإرادته لهذا ، وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه ، وإرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد قال: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ( التغابن: من الآية 16) .
فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان . وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل ، كما قد بيناه في غير هذا الموضع ، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله ، وهذا من نوع الهوى ، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (القصص: من الآية 50)

أثر الهوى في الاحتساب

فإن أصل الهوى محبة النفس ، ويتبع ذلك بغضها ، ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لايلام عليه ، فإن ذلك قد لايملك ، وأنها يلام على اتباعه كما قال تعالى : { يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (ص: من الآية 26) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، وكلمة الحق في الغضب والرضا . وثلاث مهلكات: شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه » .

والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ، ووجد وإرادة ، وغير ذلك ، فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ، بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه ، واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات ، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (القصص: من الآية 50) وقال تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } (الروم: من الآية 28) إلى أن قال : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الروم: من الآية 29) وقال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام: من الآية 119) ، وقال الله تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (المائدة:77) .
وقال تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } (البقرة:120). وقال تعالى : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } (البقرة: من الآية 145) وقال تعالى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } (المائدة: من الآية 49).

ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون إلا بهدي الله الذي بعث به رسوله ولهذا قال تعالى: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام: من الآية 119) وقال في موضع آخر : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (القصص: من الآية 50).
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه ، ومقدار حبه وبغضه : هل هو موافق لأمر الله ورسوله ؟ وهو هدي الله الذي أنزله على رسوله ، بحيث يكون مأموراً بذلك الحب والبغض ، لا يكون متقدماً فيه بين يدي الله ورسوله ، فإنه قد قال: { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (الحجرات: من الآية 1) .

ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله . ومجرد الحب والبغض هوى ، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدي من الله ولهذا قال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (صّ: من الآية 26) فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله وهو السبيل إليه .

فضل الأمر بالمعروف وآدابه

وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (الملك: من الآية 2). وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه وأصوبه .
فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً والخالص : أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ، فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده ؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ، وهو كله للذي أشرك » .

وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله وله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولابد مع ذلك أن يكون العمل صالحاً ، وهو ما أمر الله به ورسوله ، وهو الطاعة فكل طاعة عمل صالح وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب وهو العمل الصالح ، وهو الحسن ، وهو البر ، وهو الخير ، وضده المعصية والعمل الفاسد ، والسيئة ، والفجور والظلم .
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين: النية والحركة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أصدق الأسماء حارث وهمام » . فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية ، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها : أن يراد الله بذلك العمل . والعمل المحمود : الصالح ، وهو المأمور به ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحاً ، واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً .

وإذا كان هذا حد كل علم صالح ، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ، ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : " العلم إمام العمل والعمل تابعه " . وهذا ظاهر فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى كما تقدم ، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام ، فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما . ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي ، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم ، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود .

ولابد في ذلك من الرفق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان العنف في شيء إلا شانه » . وقال: « إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف » . ولابد أيضاً أن يكون حليماً صبوراً على الأذى : فإنه لا بد أن يحصل أذى ، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح : كما قال لقمان لابنه : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان: من الآية 17).

ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر كقوله لخاتم الرسل ، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة ، فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة : { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } بعد أن أنزلت عليه سورة : اقرأ . التي بها نُبئ فقال: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ }{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } (المدثر:1-7) فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة ، وختمها بالأمر بالصبر ، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر وقال : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (الطور: من الآية 48) وقال تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } (المزمل:10) . { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } (الأحقاف: من الآية 35). { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } (القلم: من الآية 48) { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } (النحل: من الآية 127) { وَاصْبِرْ

فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (هود:115) .
فلابد من هذه الثلاثة : العلم ، الرفق ، الصبر . العلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه، والصبر بعده ، وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال ، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد : " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به ، حليماً فيما ينهى عنه " .
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس ، فيظن أنه بذلك يسقط عنه ، فيدعه ، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل ، فإن ترك الأمر الواجب معصية ، فالمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل ، وقد يكون الثاني شراً من الأول ، وقد يكون دونه ، وقد يكونان سواء ، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمتعدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكونان سواء .
آثار المعاصي

ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه : أن المعاصي سبب المصائب ، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال ، وإن الطاعة سبب النعمة ، فإحسان العمل سبب لإحسان الله ، قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ( الشورى:30) وقال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } (النساء: من الآية 79) وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } ( آل عمران: من الآية 155) وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } (آل عمران: من الآية 165) وقال : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } ( الشورى:34) وقال تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } (الشورى: من

الآية 48) وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الأنفال:33) . وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وأصحاب مدين ، وقوم فرعون ، في الدنيا ، وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة , لهذا قال مؤمن آل فرعون : { يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ }{ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ }{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ }{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (غافر:30-33). وقال تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (القلم:33) وقال: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } (التوبة: من الآية 101) وقال: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (السجدة:21). وقال: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } . .. إلى قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } (الدخان:10-16) . ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة ، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط ، إذ عذاب الآخرة أعظم ، وثوابها أعظم ، وهي دار القرار ، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعاً ، كقوله في قصة يوسف : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (يوسف:56-57). وقال تعالى : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:148) وقال : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا

يَعْلَمُونَ }{ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (النحل:41-42). وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } (العنكبوت: من الآية 27) . وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا }{ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } ثم قال : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ }{ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } فذكر القيام مطلقاً ثم قال : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى }{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى }{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } ، إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } ثم ذكر المبدأ والمعاد مفصلاً فقال: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } إلى قوله : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } .. إلى قوله : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى }{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }{ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى }{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }{ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } إلى آخر السورة.

وكذلك في(المزمل) ذكر قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }{ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا }{ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } . إلى قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا }{ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } . وكذلك في(سورة الحاقة ) ذكر قصص الأمم ، كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ }{ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار. وكذلك في (سورة ن والقلم ) . ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به، ثم قال : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . وكذلك في ( سورة التغابن ) قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى

اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ثم قال: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } . وكذلك في ( سورة ق ) ذكر حال المخالفين للرسل ، وذكر الوعد والوعيد في الآخرة . وكذلك في ( سورة القمر) ذكر هذا وهذا . وكذلك في ( آل حم) مثل حم غافر ، والسجدة ، والزخرف ، والدخان ، وغير ذلك ، إلى غير ذلك مما لا يحصى . فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل ، كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال : إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال : أي الكفن خير ؟ قالت : ويحك ! وما يضرك ؟ قال : يا أم المؤمنين ! أريني مصحفك . قالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبداً ، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وإني لجارية ألعب : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ

أَدْهَى وَأَمَرُّ } (القمر:46) . وما نزلت : (سورة البقرة ) و( النساء ) إلا وأنا عنده ، قال : فأخرجتَ له المصحف فأملت عليه آي السور. وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي ، فيكون ذلك من ذنوبهم ، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم ، فيحصل التفرق والاختلاف والشر ، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً ، إذ الإنسان ظلوم جهول ، والظلم والجهل أنواع ، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ، ومن تبعهم من العامة من الفتن : هذا أصلها ، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي التي هي الأهواء الدينية والشهوانية ، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا ، وهي مشتركة : تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل ، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره ، كالزنا واللواط وغيره ، أو شرب خمر أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك . ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة

مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضاً ، ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها ، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له ، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد ، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه ، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل ، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات ؛ فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها ؟ فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي ، وأما الآخر فظلوم حسود . وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله ، فما كان جنسه مباحاً من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال : إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم والبخل والحسد ، وأصلها الشح ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم : أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا » . ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم » . فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان

مغفوراً له مرحوماً في الآخرة ، وذلك أن العدل نظام كل شيء ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له ، والتعدي عليه في حقه . وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث . فهي قد تظلم من لا يظلمها ، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها ، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير ، وقد تصبر ، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه مالم يكن فيها قبل ذلك ، ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين ، يكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين ، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب ، والجهاد على ذلك من الدين . والناس هنا ثلاثة أقسام : قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم ، فلا يرضون إلا بما يعطونه ، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه ، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه ، وصار الأمر الذي كان عنده منكراً ينهى عنه ويعاقب عليه ، ويذم

صاحبه ويغضب عليه مرضياً عنده ، وصار فاعلاً له وشريكاً فيه ، ومعاوناً عليه ، ومعادياً لمن نهى عنه وينكر عليه ، وهذا غالب في بني آدم ، يرى الإنسان ويسمع من ذلك مالا يحصيه ، وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول ، فلذلك لا يعدل ، بل ربما كان ظالماً في الحالين ، يرى قوماً ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتدائه عليهم ، فيرضى أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعواناً له ، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه ، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي ، حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك ، أو يرضوه ببعض ذلك ، فتراه قد صار عوناً لهم ، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها ، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره .

وقوم يقومون ديانة صحيحة ، يكونون في ذلك مخلصين لله ، مصلحين فيما عملوه ، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا ، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهم من خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله . وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا وهم غالب المؤمنين ، فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية ، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة . وهذه القسمة الثلاثية كما قيل : الأنفس ثلاث : أمارة ، ومطمئنة ، ولوامة ، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء ، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها : { يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ }{ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً }{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي }{ وَادْخُلِي جَنَّتِي } ، والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه ، وتتلون : تارة كذا ، وتارة كذا ، وتخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً . ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » : أقرب عهداً بالرسالة وأعظم

إيماناً وصلاحاً ، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة : لم تقع فتنة ، إذ كانوا في حكم القسم الوسط.

ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث ، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين ، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ، ثم كثر ذلك بعد ، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين ، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين ، وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وأنه مع الحق والعدل ، ومع هذا التأويل نوع من الهوى ، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس ، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى . فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه ، ويثبته على الهدى والتقوى ، ولا يتبع الهوى ، كما قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (الشورى:15) . وهذا أيضاً حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات

، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين ، فإنهم يحتاجون إلى شيئين : إلى دفع الفتنة التي ابتليّ بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضى لها ، فإن معهم نفوساً وشياطين كما مع غيرهم ، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم ، كما هو الواقع ، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانهم ، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره - يفعله ففعله ! فإن الناس كأسراب القطا ، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.

وما في القرآن من

الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه
والتاركين له، كله ذم الجبن ، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم ، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ }{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (التوبة:38-39) . وقال تعالى: { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (محمد:38). وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضلّ السابقين ، فقال: { لَا

يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (الحديد:10).

وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله ومدحه في غير آية من كتابه ، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه ، فقال: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (البقرة: من الآية 249). وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال:45-46). والشجاعة ليست هي قوة البدن ، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب ، وإنما هي قوة القلب وثباته ، فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال ، وعلى قوة القلب وخبرته به ، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة ، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم ، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، حتى يفعل ما يصلح ، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد . وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر ، فإنه لا بد منه . والصبر صبران :صبر عند الغضب، وصبر عند

المصيبة ، كما قال الحسن : ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب ، وجرعة صبر عند المصيبة ، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم ، وهذا الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم . والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب ، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن ، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز ، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : الرقوب الذي لا يولد له ، قال : ليس ذلك بالرقوب ! ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً ، ثم قال : ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قلنا : الذي لا تصرعه الرجال فقال : ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب » .فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب ، قال الله تعالى في المصيبة : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } (البقرة:155 - 156) الآية . وقال تعالى في الغضب : { وَمَا

يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (فصلت:35) وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة وصبر المصيبة كما في قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ }{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }{ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } (هود:9-11) . وقال تعالى : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } (الحديد:23) وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال : لا يفرحون إذا نالت سيوفهم قوماً وليسوا مجازيع إذا نيلوا وكذلك قال حسان بن ثابت : لا يفخرون إن هم أصابوا من عدوهم وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع وقال بعض العرب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : يغلب فلا يبطر ، ويُغلب فلا يضجر. ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم

وأيديهم ، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لما قيل له وقد بكى لما رأى إبراهيم في النزع: أتبكي؟ أولم تنه عن البكاء؟ فقال : « إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية » فجمع بين الصوتين .

وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى جاهلية » . وقال : « أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة » . وقال : « ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان » . وقال : « إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب ، ولكن يعذب بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه » . وقال : « من ينح عليه فإنه يعذب مما نيح عليه » . واشترط على النساء في البيعة أن لا ينحن ، وقال : « إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعاً من جرب وسربالاً من قطران » . وقال في الغلبة والمصائب والفرح : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » . وقال : « إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان » . وقال: « لا تمثلوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليداً » . إلى غير ذلك مما أمر به في الجهاد من العدل وترك العدوان ، اتباعاً لقوله تعالى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة:8) وقوله تعالى : {

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (البقرة:190). ونهى عن لبس الحرير وتختم الذهب ، والشرب في آنية الذهب والفضة ، وإطالة الثياب ، إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء في النعم ، وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ، وجعل فيهم الخسف والمسخ ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } (النساء: من الآية 36) وقال عن قارون: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } (القصص: من الآية 76) . وهذه الأمور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب .

وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه ، وبين ما يبغضه ويكرهه ، فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته ، ويدفع الثاني ببغضه ونفرته ، وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحاً وسروراً ، وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن ، فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما ، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما ، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه ، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الأحمقين الفاجرين : الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الإنسان فرحاً فخوراً، والصوت الذي يوجب الجزع . وأما الصوت الذي يثير الغضب لله ، كالأصوات التي تقال في الجهاد من الأشعار المنشدة ، فتلك لم تكن بآلات ، وكذلك أصوات الشهوة في الفرح فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الأعراس والأفراح للنساء والصبيان . وعامة الأشعار التي تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة ، وهي التشبيب ، وأشعار الغضب والحمية ، وهي الحماسة والهجاء ، وأشعار المصائب كالمراثي، وأشعار النعم والفرح ، وهي المدائح . والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع ، كما قال الله تعالى : {

أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ }{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } (الشعراء:225-226). ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون ، والغاوي : هو الذي يتبع هواه بغير علم ، وهذا هو الغي ، وهو خلاف الرشد ، كما أن الضال الذي لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدي ، قال الله سبحانه وتعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى }{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي » . فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة ، إذا عدم هذين مذموماً على الإطلاق، وأما وجودهما ، فبه تحصل مقاصد النفوس على الإطلاق ، لكن العاقبة في ذلك للمتقين ، وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة ، والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضاً ، كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة : { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } . إلى قوله : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود:48-49) . وقال : {

فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (البقرة: من الآية 194) .
والفرقان : أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله ، فإن الله تعالى هو الذي حمده زين، وذمه شين ، دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم، ولهذا « لما قال القائل من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم : إن حمدي زين وذمي شين قال له : " ذلك لله » . والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة في سبيله ، كما في الصحيح عن أبي موسى قال : « قيل : يارسول الله الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حميّة ، ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » 0 وقد قال سبحانه : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة: من الآية 193). وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الخلق له ، كم قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذريات:56). فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محموداً عند الله، وهو الذي يبقى لصاحبه ، وهذه الأعمال الصالحات .

ولهذا كان الناس أربعة أصناف : من يعمل لله بشجاعة وسماحة ، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة ، ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الآخرة من خلاق ، ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة ، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك ، ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة ، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة .

فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموماً ، وخصوصاً في أوقات المحن والفتن الشديدة ، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم ، ويحتاجون أيضاً إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم ، وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه ، وإن كان يسيراً على من يسره الله عليه ، وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح ، وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح ، كما قال الله تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:40-41) . وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر:51). وكما قال : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (المجادلة:21) . وكما قال : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (الصافات:173) .

ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة ، صار في الناس من يتعلل لترك ماوجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة ، كما قال عن المنافقين : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } الآية . وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، بالتجهز لغزو الروم ، وأظنه قال: « هل لك في نساء بني الأصفر ؟ فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر عن النساء وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر ، فائذن لي ولا تفتني » ، وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة ، واستتر بجمل أحمر ، وجاء فيه الحديث : « إن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر » . فأنزل الله تعالى فيه: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } (التوبة: من الآية 49). يقول : إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء ، فلا يفتتن بهن ، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم ، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن

منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه ، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك، وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء فهذا وجه قوله: { وَلَا تَفْتِنِّي } . قال الله تعالى: { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } (التوبة: من الآية 49) . يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد : فتنة عظيمة قد سقط فيها ، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة: من الآية 193) . فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة : فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد .

فتدبر هذا ، فإن هذا مقام خطر ، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام : قسم يأمرون وينهون ويقاتلون ، طلباً لإزالة الفتنة التي زعموا ، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة ، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة . وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا ، لئلا يفتنوا ، وهم سقطوا في الفتنة ، وهذه الفتنة المذكورة في ( سورة براءة ) دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة ، فإنها سبب نزول الآية ، وهذه حال كثير من المتدينين ، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا ، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات ، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه ، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور ، وهما متلازمان ، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعاً أو تركهما جميعاً : مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي ، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات . فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين . فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور لم يترك

ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة ، وإن كان ترك المحظور أعظم أجراً لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات ، فهذا هذا ، وتفصيل ذلك يطول . وكل بشر على وجه الأرض فلابد له من أمر ونهي ، ولابد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها ، إما بمعروف وإما بمنكر ، كما قال تعالى: { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } (يوسف: من الآية 53). فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته ، والنهي طلب الترك وإرادته ، ولابد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته، وبنو آدم لا يعيشوا إلا باجتماع بعضهم مع بعض ، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلابد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر ، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين ، كما قيل : الاثنان فما فوقهما جماعة ، لكن لما كان ذلك اشتراكاً في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما أمام والآخر مأموم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه : « إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ، وليؤمكما أكبركما » وكان متقاربين في القراءة . وأما

الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمرو عليهم أحدهم » .

وإذا كان

الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم
، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله ، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، وإلا فلابد أن يأمر وينهى ، ويؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك ، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله . وإذا اتخذ ذلك ديناً ، كان ديناً مبتدعاً . وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث ، فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملاً صالحاً لوجه الله وإلا كان عملاً فاسداً أو لغير وجه الله ، وهو الباطل ، كما قال تعالى: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } (الليل:4) . وهذه الأعمال كلها باطله . من جنس أعمال الكفار : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } (محمد:1) . وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (النور:39). وقال: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا

عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } (الفرقان:23) . وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين ، كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء:59) . و ( أولو الأمر ) أصحاب الأمر وذووه ، وهم الذين يأمرون الناس ، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام ، فلهذا كان أولو الأمر صنفين : العلماء والأمراء ، فإذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته : ما بقاؤنا على هذا الأمر ؟ قال : ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان ، وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به ، وينهى عما نهى عنه ، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله ، ولا يطيعه في معصية الله ، كما قال أبو

بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم ، فقال في خطبته :أيها الناس : القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق ، أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .

فصل:
وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين : أن يراد بها وجه الله ، وأن تكون موافقة للشريعة ، فهذا في الأقوال والأفعال ، في الكلم الطيب ، والعمل الصالح ، في الأمور العلمية والأمور العبادية ، ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي : « أن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم : رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس : هو عالم وقارئ ، ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس : هو شجاع وجريء ، ورجل تصدق وأعطى ليقول الناس : جواد سخي » .

فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين ، فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقاً , ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيداً، ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحاً ، ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت ، كما قال ابن عباس : من أعطي مالاً فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت ، وقرأ قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } (المنافقون:10).

فهذه الأمور العلمية الكلامية يحتاج المخبر بها أن يكون ما يخبر به عن الله واليوم الآخر، وما كان وما يكون ، حقاً صواباً . وما يأمر به وينهى عنه كما جاءت به الرسل عن الله ، فهذا هو الصواب الموافق للسنة والشريعة ، المتبع لكتاب الله وسنة رسوله ، كما أن العبادات التي يتعبد العباد بها إذا كانت مما شرعه الله وأمر الله به ورسوله : كانت حقاً صواباً، موافقاً لما بعث الله به رسله ، وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل ، وإن كان يسميه من يسميه علوماً ومعقولات ، وعبادات ومجاهدات ، وأذواقاً ومقامات .
ويحتاج أيضاً أن يؤمر بذلك لأمر الله ، وينهى عنه لنهي الله ، ويخبر بما أخبر الله به ، لأنه حق وإيمان وهدى كما أخبرت به الرسل ، كما تحتاج العبادة أن يقصد بها وجه الله ، فإذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية ، أو لإظهار العلم والفضيلة، أو لطلب السمعة والرياء : كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء .

ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال ، وأهل العبادة والحال ، فكثيراً ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة ووفاقها ، وكثيراً ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها ، بل قد نهى عنها ، أو ما يتضمن مشروعاً محظوراً ، وكثيراً ما يقاتل هؤلاء قتالاً مخالفاً للقتال المأمور به ، أو متضمناً لمأمور محظور .
ثم كل من الأقسام الثلاثة : المأمور ، والمحظور ، والمشتمل على الأمرين قد يكون لصاحبه نية حسنة ، وقد يكون متبعاً لهواه ، وقد يجتمع له هذا وهذا .
فهذه تسعة أقسام في هذه الأمور ، وفي الأموال المنفقة عليها من الأموال السلطانية ، الفيء وغيره ، والأموال الموقوفة ، والأموال الموصى بها والمنذورة ، وأنواع العطايا والصدقات والصلات ، وهذا كله من لبس الحق بالباطل ، وخلط عمل صالح وآخر سيئ .

والسيئ من ذلك قد يكون صاحبه مخطئاً أو ناسياً مغفوراً له كالمجتهد المخطئ الذي له أجر وخطؤه مغفور له ، وقد يكون صغيراً مكفراً باجتناب الكبائر ، وقد يكون مغفوراً بتوبة أو بحسنات تمحو السيئات ، أو مكفراً بمصائب الدنيا ونحو ذلك ، إلا أن دين الله الذي أنزل به كتبه وبعث به رسله ما تقدم من إرادة الله وحدة بالعمل الصالح ، وهذا هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره ، قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85). وقال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (آل عمران:18-19) .

والإسلام يجمع معنيين : أحدهما الاستسلام والانقياد ، فلا يكون متكبراً ، والثاني الإخلاص من قوله تعالى : { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } . فلا يكون مشركاً ، وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين ، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (البقرة:130-132) . وقال تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام:161-162) .

والإسلام يستعمل لازماً معدى بحرف اللام ، مثل ما ذكر في هذه الآيات ، ومثل قوله تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } (الزمر:54) . ومثل قوله تعالى : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (النمل: من الآية 44). ومثل قوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (آل عمران:83). ومثل قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ } (الأنعام:71 -72).

ويستعمل متعدياً مقروناً بالإحسان ، كقوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة:111-112). وقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } (النساء:125).
فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين ، وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان ، وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة رداً لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر .
وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله ، والإحسان - هما الأصلان المتقدمان ، وهما: كون العمل خالصاً لله ، صواباً موافقاً للسنة والشريعة ، وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله ، كما قال بعضهم :

أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه ، وإقامة الوجه ، كقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (الأعراف: من الآية 29) . وقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم: من الآية 30). وتوجيه الوجه كقول الخليل : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وكذلك كان النبي: يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته : « وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين » . وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يقول إذا أوى إلى فراشه : « اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك » .

فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه، ويتناول المتوجه نحوه كما يقال: أي وجه تريد ؟ أي: أي وجهة وناحية تقصد ، وذلك أنهما متلازمان ، فحيث توجه الإنسان توجه وجهه ، ووجه مستلزم لتوجهه ، وهذا في باطنه وظاهره جميعاً ، فهذه أربعة أمور ، والباطن هو الأصل، والظاهر هو الكمال والشعار فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر ، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده ، فإذا كان مع ذلك محسناً فقد اجتمع أن يكون عمله صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ، وهو قول عمر رضي الله عنه : اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً , والعمل الصالح هو الإحسان ، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به ، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله ، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله ، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسناً في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب .

ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين ، كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (الملك: من الآية 2) . قال : أخلصه وأصوبه ، فقيل : يا أبا علي ! ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إن العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، وإذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً . والخالص : أن يكون لله ، والصواب : أن يكون على السنة.
وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير قال : لا يقبل قول وعمل إلا بنية ، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة ، ورويا عن الحسن البصري مثله ، ولفظه : " لا يصلح " مكان لا يقبل ، وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافياً ، فأخبر أنه لا بد من قول وعمل ، إذ الإيمان قول وعمل ، لا بد من هذين ، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيماناً - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل .

وأصل العمل عمل القلب ، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار ، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية ، وهذا ظاهر ، فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصاً لله تعالى لم يقبله الله تعالى ، ثم قالوا : ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة ، وهي الشريعة ، وهي ما أمر الله به ورسوله لأن القول والعمل والنية الذين لا يكون مسنوناً مشروعاً قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله ، فلا يقبله الله ، ولا يصلح : مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب .
ولفظ " السنة " في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات ، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات ، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة ، وأمثال ذلك .
والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحاب